محمد رسول الحرية
لقد كان العرب يعتبرون مكة عاصمة لهم ، فهى أم القرى عندهم جميعا ً، هى
المركز التجارى الكبيرالذى يُمثل عصب الحياة ، وهى تضم البيت العتيق الذى
أقيم للناس مباركا .. وهى بوصفها الإقتصادى العاصمة المرموقة ! ومن أجل ذلك
جمعت كعبتها آلهة الجزيرة كلها ، ليحج إليهاالعرب من كل مكان وأصبحت مواسم
التجارة فيها هى مواسم الحج إلى كعبتها . ولم يكن التشريع الذى تضعه
السلطات الحاكمة فى مكة يهتم بغير مصالح تلك السلطات .. وأصحاب السلطة و
الحكام كلهم من التجار الكبار أصحاب رءوس الأموال أو أصحاب المصارف
والمرابين ومُلا َّك الخمَّارات وبيوت اللهو الضخمة .. من أجل ذلك فما كان
التشريع فى مكة يهتم بأحد غير هؤلاء الملاك الكبار والحاكمين ، ولم يكن
للفقراء شئ على الإطلاق .. فالرجال ينحدرون تحت وطأة الحاجة ليتحولوا إلى
عبيد.. والنساء يتحولن تحت نفس السلطان الغاشم إلى بغايا . كان المال
والآلهة والكعبة والمتاع للسادة ، أما هؤلاء الفقراء الذين وقعوا فى الشراك
يدفعون ثمنا باهظا ًفنجد الرجل أحيانا يرتهن ولده أو إبنته أو نفسه أو
إمرأته أو أمه فإذا حل موعد الدين وجب على المدين أن يدفع أضعاف مااستدان
فإذا عجز ، تحول الرهينة إلى عبد يملكه الدائن يستثمره كيف يشاء فيتسلم
الدائن المرأة أو الإبنة لا ليستمتع بها هو وحده فحسب فقد كان من حقه أن
يُلْحقها بأحد بيوت اللهو الكبيرة التى كانت ترفع عليها رايات خاصة ، وكم
من رجال خشوا أن تأتى عليهم أيام تمَرَّغ أنوفهم فى هذا الوحل ، فتخلصوا من
بناتهم ووأدوا البنات بعد الولادة على الفور.وأما الذين إشترتهم أموال
النخاسين والتجار من شواطئ أفريقيا ليحرسوا أموال السادة ، أما هؤلاء جميعا
فقد أُلقِىَ بهم بعيدا ًعن الكعبة ليعيشوا فى حَىًّ ناءٍ عن الآلهة ، على
حافة الصحراء .. فى العدم .. حيث لايملكون شيئا بَعْد غير الذكريات وأحلام
الخلاص .. وفى هذا الظلام الجائر العقيم .. وفى هذا الليل الرهيب الداجى ..
وُلِدَ الهُدى : محمد بن عبدالله إبن عبد المطلب .
مات أبوه عبدالله ثم لحقت به أمه آمنة وخلفت وراءها غلاما ًيتيما ً فى
السادسة من العمر ، كفله جده عبد المطلب .. لكأنه ولده مرَّتين .. هو ذا
أخيرا ًيرعى إبن عبد الله أحب ولده إليه : فكان يدعوه ..إبنى .. كان يُجلسه
معه على الفراش ويمسح ظهره بيده .. على أن هذا الحنان الدَّافق الذى مسح
به جده جراحات يُتمه ، لم يدم طويلا ً ، فما بلغ الثامنة من عمره .. مات
جده عبد المطلب بعد أن أوصى أولاده به خيرا ً.. وانتقل الغلام اليتيم إلى
بيت عمه الشقيق أبى طالب ، وأقام عند عمه يُضنيه شعور بالغربة ، على
الرَّغم من حرص عمه عليه واحتفال بنى عمه به .. ولكنه ظل على إحساسه
بالوحدة ، فإذا وُضِعَ الطعام له وللصبية من أولاد أبى طالب إمتدت أيديهم
وانقبضت يده إستحياء ..على أنه ألف الحياة فى دار عمه يوما بعد يوم .. صاحب
محمد عليه الصلاة والسلام عمه فى رحلة الصيف إلى الشام ، هو إذْ ذاك غلام
فى الثانية عشرة .. وعاد إلى مكة مع القافلة بعد أن التقى براهب نصرانى فى
الطريق.. ولقد أعجب به وأثنى عليه ودعاه إلى طعامه مع الكبار حين حاول
الكبار أن يُؤخروه وكانت نبوءته لمحمد لما سيصير له شأنه فيما بعد .
عاد يرعى الغنم ، ويطوف بالكعبة .. والأيام تتقدم به أول الشباب ، لكم رأى
فى الكعبة ..ليعجب من صمت "الأصنام"فيها على مايجرى هناك تحت أعيُنها ففى
الكعبة : رأى الرجال يطوفون عراة، والنساء يطفن بأثواب شفافة تكشف أكثر مما
تستر ، ويثرن بها الرجال أكثر مما لو طفن عاريات .. ورأى بعض الرجال يلتصق
بالنساء أمام آلهة الكعبة وآلهة الكعبة مُغمََضة العينين . ووثبت به
الحياة إلى الفتوة ، وهو ما برح يرعى الغنم فى النهار، ويُفكر طوال الليل
فى ألوان الحياة التى تعيشها مكة وفى الطريق إلى حياة أفضل أين الطريق ؟
أيظل فى مكة يعمل برعى الغنم إلى الأبد ؟ لم لايعمل بالتجارة وقد كبر الآن
وأصبح فى كامل رجولته فألحقه عمه أبو طالب للعمل بالتجارة لخديجة بنت خويلد
.. كانت فى الأربعين .. ، وقد مات عنها زوج بعد زوج ، وكلاهما تاجر واسع
الغنى من سُراة مكة..واستقبلته خديجة مُرحِّبة ، ومدحت فيه ماكانت تسمعه عن
صدقه وأمانته وحسن سريرته ، ثم عرضت عليه أن يخرج إلى الشام وتُعطيه أفضل
ما كانت تعطى غيره .. خرج إذن للتجارة وكان يصحبه عبدها الذى كان يحدثها عن
كثير من خصاله التى تحبب فيه الرجال . الرجال والنساء أيضا ً.. أعجبت به
خديجة رضى الله عنها وأرسلت إليه وعرضت عليه نفسها أن يتزوجها .. وقالت له "
إنى رغبت فيك لقرابتك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك "- هذه لمحات من حياته
صلى الله عليه وسلم قبل البعثة أوردتها إحتفالا بمولده – صلاة وسلاما عليك
يا خير رُسْل الله .
قراءة فى كتاب